" الحياة اليوم " جريدة إلكترونية إخبارية سياسية شامله تقوم على التحليل والرأي ونقل الحقيقة كما هي. تقدم خطابا إعلاميا متزن، ويلتزم بوصلة وحيدة تشير إلى تحرير الإنسان في إطار يجمعنا داخل الوطن كله ولا يعزلنا

بروفيسور/ عبـدهـ مختـار الاكاديمى المستقل …يكتب …حكومة حمدوك الانتقالية ( تقييم) ( 3 –١)
هناك جدل كثيف يدور في مجموعات قنوات التواصل الاجتماعي في السودان حول شخصية رئيس الوزراء المستقيل الدكتور عبد الله حمدوك وإمكانية عودته – بعد توقف الحـرب. فانقسم الرأي العام حوله بين من ينادي بعودته ومجموعة أخرى ترى أن حمدوك قد أخذ فرصته ولم يُوفق فالأفضل البحث عن بديل، أو بالمنطق السوداني (حـواء والـدة).
أقول للفئة التي تطالب بعودة رئيس الوزراء المستقيل حمدوك لماذا تطالبون بعودة شخص اقتنع بأن عليه أن يستقيل؟ لو كان قادراً على تحقيق ما تطلبونه لما استقال ولصمد أمام التحديات.
وأقول للشباب الذين ظلوا يرددون “شكراً حمدوك” و “حمدوك المؤسِّس” “… أن الشكر يجب أن يكون لله الذي وفق الشعب السوداني في ثورته ضد نظام مستبد وفاسد وفاشل.. وهنا أتساءل: على أي شيء تشكرون حمدوك؟ هل هو شارك في تفجير الثورة ابتداءً؟ وحتى عندما جاء واستلم المنصب: هل نجح في الحفاظ على الثورة؟ لا. بل تركها في نصف الطريق وغادر بعد أن وقَّـع ذلك “الاتفاق” وخسر الرهان!
أقول لشباب “شكرا حمدوك”: أرجو قراءة هذا المقال بعقلكم – بعيدا عن العاطفة..
أما من ناحية “مؤسِّس”، فهو لم يؤسس ولن يؤسس لأنه – من واقع أدائه – وضح أنه لا يملك القدرات الخاصة بالتأسيس وليس له رؤية ولا خطة ولا إرادة سياسية. فالقائد المؤسس والثوري (revolutionary figure) هو من يملك رؤية سياسية (political vision) ويملك برنامج للتغيير (programmatic leader) ويملك قدرة على التعبئة: mobilizing leader. فهل رأيتم يوما خطب حمدوك في الجماهير؟! بعد أكثر من عامين وضح أن حمدوك لا يملك تلك القدرات.
تخيَّـلوا لو أن حمدوك كان كل فترة يجمع شباب الثورة ويخاطبهم في مكان ما: يقدم خطاباً جماهيرياً موجهاً عبرهم لكل الشعب، يشرح فيه ماذا يعمل الآن؟ وماذا سيعمل من أجل الثورة؟ ما هي خطته؟ ما هي برامجه؟ ما هي التحديات والمؤامرات؟ وما هي مطلوبات المرحلة؟ وما هي أدوات التغيير؟ وماذا يريد من الشعب؟… يخطب فيهم تماما مثل ما يفعل أي زعيم في كل الدنيا وعبر التاريخ – في مثل هذه المواقف. تخيلوا لو فعل ذلك ليس في العاصمة فحسب بل في كل المدن الكبرى، ما هي فوائد ذلك؟ أولاً: سوف يطمئن الناس على أن لهم قائد يملك الرؤية وله الخطة والبرنامج اللازم للتغييـر الثوري؛ ثانياً: سوف يلتفون حوله بشدة ويستمد منهم الإرادة ويجدد التفويض … ثالثاً: سوف يدعمون خطواته بقوة ويشكل ذلك رسائل قوية لأعداء الثورة. رابعاً: تشكل تلك اللقاءات الجماهيرية تنفيساً لشباب الثورة وإطمئناناً ولا يحتاجون بعدها للخروج من حين إلى آخـر في مظاهرات فيجد أعداء الثورة الفرصة لقتلهم (أعداء الشعب الذين لا يخافون الله في قتل المدنيين السلميين الأبرياء)، ونحقن دماءً عزيزة.. خامساً: سوف يشكل ذلك وقودا لاستمرار زخم الثورة (momentum) ورسائل لأعدائها..
لكن: كيف يؤسس حمدوك وهو لم يمسك بخيوط اللعبة؟ ولم يمسك بها لأنه لا يملك القدرات الخاصة بذلك. فكل خيوط اللعبة كانت في يد الحركة الإسلامية حيث كانت كل مفاصل الدولة في يدها، ولم ينتـزعها منها. وكيف ينتزع خيوط اللعبة وهو لم يستطع الإمساك بكل المفاتيح الخاصة بذلك وهي متاحة له؟! لذلك بدأ البعض يتحدث في هذا المعنى مثل البروفيسر حسن مكي الذي ظل يردد بأن الفترة الانتقالية هي “الإنقاذ 2” أو الانقاذ الثانية. (نعم، هي الانقاذ الثانية والدليل على ذلك استمرار كل الأوضاع السيئة في حياة المواطن بل إزدادت سوءً فذلك امتداد لوضع ولنظام رفضه الشعب في ثورة عظيمة)!
لقد ظللتُ أكتب مقالات صحفية في فترة حمدوك، بعضها حمل العناوين التالية (حمدوك ليس رجل المرحلة)، “هذه الحكومة ليست في مستوى الثورة”،، (حمدوك لا يملك رؤية سياسية ولا إرادة سياسية)، وأن (الحكومة الانتقالية ضلّت طريقها): وشرحت ذلك بأنها بدأت بالمنهج الخطأ، وسارت في المسار الخطأ ولم تعمل بالأولويات المعروفة لأي فترة انتقالية وأضاعت وقتها (وتماسكها) في قضايا جدلية ليست ذلك وقتها ولا تملك الشرعية لتقرر فيها (مثل قضايا الدين والعلمانية، الحكم الذاتي، التطبيع مع إسرائيل، تعديل نظام الحكم بإدخال نظام مزدوج في دارفور مخالف للنظام السائد في بقية الدولة!!) وغيرها ..
من أخطاء حمدوك السياسية أن ما كان له أن يسمح بإضاعة وقت الدولة والثورة في مناقشة قضية جدلية مثل علاقة الدين بالدولة، أو الإسلام والعلمانية، فهذه قضية من المسلمات ومحسومة بمقتضى طبيعة الشعب السوداني المتديِّن، المسلم – وإسلامه إسلام معتدل. فالثورة ضـد الذين يتاجرون بالدين وعملوا على تشويه الإسلام.
…………………….
من واقع أداء حمدوك في عامين ونيف اتضحت عيوب سياسية كثيرة وارتكب أخطاء سياسية كبيرة، وأثبت أنه “خبير اقتصادي” لكنه ليس قائداً سياسياً أو زعيما ثورياً. ومن أمثلة ذلك:
أولاً: لم يعلن لنا حمدوك أي برنامج للتغيير يكون في مستوى الثورة العظيمة وطموحات الشعب في التغيير الحقيقي، الجذري والشامل.. وهو جوهر خصائص الثورات. والمشكلة ليس فقط في أنه ليس له برنامج بل في أنه لم يستعن بالفئات التي يمكن أن تزوده بالبرنامج. فكنتُ متوقع من حمدوك (بعد أن وضح عدم امتلاكه لبرنامج) أن يطلب مقابلة العلماء والخبراء. ولكنه لم يفعل حتى ذهب! فقد كانت هنالك شريحة من العلماء والخبراء الذين يعبرون عن الأغلبية الصامتة وهي كفاءات مستقلة ليس لها علاقة بالأحزاب وهي مؤهلة لمعالجة تعقيدات الفترة الانتقالية وعلى إعانته في تحقيق أهداف الثورة وفي وضع الدولة في مسارها الصحيح. وبدلا ًعن ذلك اكتفى حمدوك بـ قوى الحرية والتغيير كحاضنة له. فقـوى الحرية والتغيير كان لها القدرة على تنظيم الحراك، ولكن لم تكن تملك القدرة على تشكيل حكومة انتقالية متماسكة وذات كفاءة وذلك لسبب بسيط وهي أنها بكل أنانية لجأت لاحتكار السلطة وتعاملت في تشكيل الحكومة بالمحاصصات وليس بمعايير موضوعية. كان نتاج ذلك هو أن جاءت بحكومة غير متجانسة، بل دخلت في صراعات. فهناك فرق بين (السياسي) وبين من يملك العلم والقدرات السياسية والرؤية الاستراتيجية في التعامل مع تعقيدات وتحديات الفترة الانتقالية المعروفة. فمن يدير الحراك والمظاهرات بنجاح ليس هو بالضرورة من يدير الدولة بكفاءة واقتدار..
ثانياً: لجنة تفكيك تمكين الثلاثين من يونيو 1989 وإزالة الفساد واسترداد الأموال… من حيث المبدأ كان يجب أن تكون هذه اللجنة من أهم أذرع الثورة في تحقيق أهدافها. فهي تحقق هدفاً سامياً يتمثل في إزالة الظلم والفساد حيث احتكرت فئة معينة لنفسها السلطة والثروة والفرص والامتيازات، وأقصت الآخرين وحرمت غير المنتمين، ثم أفسدت وبددت أموال الدولة، وهو فساد اعترف به مؤسس الحركة الإسلامية، د. عبد الله الترابي في برنامج شاهد على العصر في قناة الجزيرة (2016). وكذلك اعترف به الرئيس المعزول البشير مؤخرا جدا بعد أن صار الفساد بينوياً وهدم الاقتصاد وجفف حتى ودائع الناس في المصارف!! لكن كان هنالك خلل في عمل اللجنة وظهرت فيها ثغرات استغلها أعداء الثورة من الفاسدين المستهدفين بالعدالة. كان على حمدوك أن يهتم بأداء اللجنة ويراجع تشكيلها ويتابع عملها ويضع لها ضوابط وموجهات ومعالجة الثغرات، فالقرار هو بالضرورة في يده (بصفته رئيس وزراء له الحق في إعادة تشكيل هذه اللجنة بدون تدخل من مجلس السيادة). كان يمكن أن تتشكل اللجنة من ممثلين من كل الأجهزة العدلية والقانونية وتعمل بمثابة لجنة تحقيق أو جمع الحقائق fact-finding committee (الأدلة والبيِّنات) ثم تقدمها للنيابة وللقضاء لاصدار أحكام قضائية ضد المتهمين إذا ثبتت الاتهامات بالإجراءات القانونية والقضائية المعروفة؛ وحينها لن تكون هنالك ثغرات – ربما استئناف فقط.. فليس من الحكمة أن تعمل اللجنة في عجلة واستعجال وبزخم سياسي وإعلامي أكثر من انضباط قانوني. لذلك أصبحت مرصودة من “المستهدفين” ولذلك لو هنالك خطأ واحد من ضمن مئة قرار صحيح يتم تضخيم هذا الخطأ بهدف نسف كل عملها ويقوض هدفها (في محاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة). لذلك عاد بعض المفصولين بقرارات من اللجنة عادوا إلى مواقعهم بأحكام قضائية (وبعضا آخر أعادهم البرهان بـ “قرارات” بعد الإنقلاب).. لو تدخل حمدوك وضبَـط عمل اللجنة لكان لها شأن آخر، وكان يمكن يكون “الاحتفال الإعلامي” بعد أن يصدر حكم قضائي نهائي عن كل قضية.
ثالثاً: لجنة التحقيق في فض اعتصام القيادة العامة. وهذه أيضا من نقاط الفشل في الحكومة الانتقالية. قضية واضحة الأدلة والبينات، والشهود والفيديوهات الموثقة للانتهاكات ومع ذلك لم تصدر تقريرها بعد أكثر من عامين!. كان يجب على حمدوك التدخل لحسم الأمر سواء كان بتغيير رئيس اللجنة أو البحث عن آلية قانونية بديلة .. مثل عمل اللجنة هذا هو الذي كان يمكن أن يكون من الانجازات الداخلية المطلوبة.
رابعاً: التفويض الشعبي القوي الذي وجده حمدوك في مليونية 30 يونيو 2020 لم يجده أي شخص أو زعيم في تاريخ السودان الحديث. لقد توقعتُ أن يلتقط حمدوك القفاز ويتجاوب مع ذلك التفويض الشعبي المباشر ويتجاوز قحت ويشكل حكومة كفاءات مستقلة لـ (يعبر) بالفترة الانتقالية. لكن للأسف، مرت تلك الفرصة التاريخية – بل ضاعت – كما ضاعت “اللحظة الثورية” الأولى..! بل لم يخرج حمدوك لمخاطبة الجماهير التي احتشدت له خارج القصر !! لو كان لحمدوك “إدراك سياسي” وإرادة سياسية لـ “فعلها”. لكن بدلاً عن ذلك كانت النتيجة استسلامه لقحت التي صارت منقسمة، متشرزمة ومتصارعة وضعيفة أضاعت وقتا غاليا للثورة وفرصاً كبيرة لوضع أول الخطوات لبناء الدولة. كانت تلك هي فرصة حمدوك الكبيرة لو كانت له “قدرات سياسية”. لكنه جاء بحكومة ثانية ليست أقل سوءً من سابقتها، بل اعترتها المزيد من المحاصصات والمجاملات، ويكفي أنه وضع في وزارة الخارجية شخصية ليست لها أية علاقة بالعمل الدبلوماسي أو معرفة بالعلاقات الدولية، فكان الأداء كارثيا في هذا المجال، وهو مجال مهم جدا للفترة الانتقالية ولمستقبل السودان.
خامساً: التطبيع: ما كان لحمدوك أن يوافق على التطبيع إطلاقاً. وكان يجب: (1) أن يرفض من حيث المبدأ ربط عملية رفع العقوبات بالتطبيع لأن ذلك ابتزاز حيث أن رفع العقوبات مرتبط بنظام قد أزاله الشعب؛ (2) كان يجب على حمدوك أن يرفض تدخل الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان أو غيره في هذا الأمر لأنه شأن يخص الجهاز التنفيذي ووزارة الخارجية؛ فالعلاقات الخارجية هي تتبع لمجلس الوزراء وليست للفريق اول البرهان سلطة تخول له ذلك. وحتى حمدوك نفسه لا يملك السلطة الشرعية في مثل هذه القضايا المصيرية التي تحتاج إلى أن يجيزها برلمان منتخب أو بالاستفتاء. لو كان لحمدوك إداراك سياسي لمنع التطبيع وفق هذه المسوغات وكفانا شـر الابتزاز! (أنظر دراستي عن “التطبيع الإسرائيلي والمأزق السوداني، في مجلة المستقبل العربي، العدد 506، أبريل/نيسان 2021).
سادسا: اتفاقية جوبا (أكتوبر 2020): من أخطاء حمدوك السياسية قبوله بمفاوضات للوصول لاتفاق مع الحركات المسلحة (أو الكفاح المسلح). لو كنتُ في مكان حمدوك لتصرفتُ كما يلي: (1) ليس هناك أي داعٍ لـ “مفاوضات” ابتداءً مع هذه الحركات، وذلك لأن النظام الذي تسبب في حملها للسلاح قد ذهب بفعل ثـورة، وهي ثورة صنعها الشباب في كل مدن السودان. (2) بعد أن ذهب النظام الذي تسبب في الظلم والتهميش أصبح في الساحة طرف واحد هو “الشعب السوداني” وثورته (ومَـن يمثَّـلها بالأمر الواقع) لذلك لماذا تفاوض الحركات “الشعب السوداني”؟!! كان يجب أن لا يكون هنالك تفاوض ولا وسيط ولا يتم ذلك في الخارج. كيف؟ كان بمجرد ذهاب نظام البشير وانتفت مسببات الحرب، كان على الحركات هذه أن تضع السلاح ويأتي ممثلون لها للخرطوم ليشاركوا في مؤتمر قومي جامع لكل الحركات والتنظيمات والمكونات، وشامل لكل القضايا، ويناقش قضايا السودان كلها في حزمة واحدة ويخرج برؤية استراتيجية واحدة للتنمية الشاملة العادلة – مع مبدأ التمييز الإيجابي للمناطق المتأثرة بالحرب (بما يشمل ذلك التعويضات وجبر الضرر وإعادة النازحين واللاجئين وإعادة الإعمار و الـ DDR وغيرها من الآليات المعروفة لمعالجة مثل هذه الأزمات). وكان يجب أن يتم الدمج والتسريح والإعمار أن تتحول تلك الحركات إلى أحزاب سياسية وتسجل نفسها وفق القانون وتستعد للانتخابات. لكن سكت حمدوك عن كل ذلك. لقد تمت العملية خارج السودان وبوسيط ومفاوضات وكأن الحركات كانت تحارب الشعب السوداني وأن الشعب السوداني هو الذي ظلمها وتسبب في تمردها!! (3) هذه الاتفاقية لم تشمل كل الحركات وتعاملت مع القضايا بتجزئة ومسارات وفجرت أزمات أخرى (مثل مسألة شرق السودان).. (4) هذه الاتفاقية ليست لها شرعية لأنها لم يجزها برلمان. (5) هذه الاتفاقية كانت بمثابة (ابتـزاز) حيث حصل الموقعون على مناصب ولم تحقق أي شئ (سلام أو أمن أو استقرار) لا لدارفور ولا للسودان؛ بل أكتفى قادة الحركات (الموقعون) بالمناصب وتركوا الإقليم بأسوأ مما كان عليه الحال وقت الحرب وتحت حكم البشير. ويكفي أنه يوجد حتى الآن نصف مليون لاجىء من دارفور في تشاد منذ عشرين عاماً!! (6) بصفته “رئيس وزراء” يتمتع حمدوك بسلطات واسعة لم يتحرك في المساحة التي يتيحها له هذا المنصب. فبحكم منصبه هـو مسؤولا عن ملف السلام. كان عليه أن يفرض تعاملاً مختلفا مع الحركات المسلحة بدلا من الرضوخ لهذا الابتزاز وقد أخذت جهة أخرى الملف بعيدا عنه! (7) الحرب التي اندلعت بين الدعم السريع والجيش في منتصف أبريل/نيسان 2023، قـد ألغت اتفاقية جوبا – تلقائياً. كيف؟ (وهذا موضوع يحتاج لمقال آخر لشرحه).
سابعاً: ما عدا (المؤتمر الوطني)… من أخطاء حمدوك السياسية أنه (ومعه قحت) ظلوا يرددون الشعار الخطأ الذي يردده (البعض) بالقول أن المشاركة في الفترة الانتقالية هي متاحة للجميع “ماعدا المؤتمر الوطني”. فكيف تفوت على فطنة حمدوك وقحت هذه (الخدعة)؟ كان يجب على حمدوك اصدار توجيه رسمي للإعلام بأن التعبير عن مطلب الجماهير هنا يجب أن يتم بدقة في كلمات مختلفة وهي (… ما عدا “الحركة الإسلامية”) لأن الثورة استهدفت “الكيزان” وهم الحركة الإسلامية، وما المؤتمر الوطني إلا واجهة سياسية لهم. الآن المؤتمر الشعبي (وهو جوهر الحركة الإسلامية) يشارك في العملية السياسية !! ويمكنهم أن يشاركوا في الانتخابات لأن الاستثناء لا يشملهم بل يشمل (حزب المؤتمر الوطني) وبالتالي عندما تأتي الانتخابات يمكن أن يصطف جميع (أعضاء الحركة الإسلامية ومن والاهم من “التيار الإسلامي العريض”) يمكن أن يصطفوا خلف المؤتمر الشعبي ويعودوا للفضاء السياسي من جديد!!!
ثامناً: غرامة مجحفة للشعب السوداني: من الأخطاء السياسية التي ارتكبها حمدوك في السياسة الخارجية – عبـر ابتـزاز التطبيع – هو عدم اعتراضه على دفع حكومة السودان (من أموال الشعب السوداني) لمبلغ أكثر من 300 مليون دولار كتعويض لضحايا عمليات إرهابية تم اتهام عناصر من نظام الرئيس المعزول البشير بضلوعهم فيها. حتى لو كانت تلك الاتهامات حقيقية وترتبت عليها أحكام قضائية وغرامات مالية كان على حمدوك – إن لم ينجح في إلغائها – على الأقل أن يطلب تجميد التنفيذ أو تأجيل السداد بدلا عن دفع مثل هذه المبالغ في وقت فيه يحتاج الشعب السوداني لمساعدات وليس دفع تعويضات في قضية لا ذنب للشعب السوداني فيها!! والنظام المسؤول عن ذلك قد ذهب بأمر الشعب! كان يمكن أن يتم التأجيل لأن أمريكا وكل العالم متعاطف مع الشعب السوداني وثورته ومدرك تماما لمعاناته بسبب ما فعله نظام البشير.
تاسعاً: عدم تنفيذ أحكام الإعدام: لقد ظلت كثير من أحكام الإعدام معلقة أو مجمدة في انتظار تشكيل المحكمة الدستورية فهنالك أكثر من ثلاثة آلاف أحكام إعدام لم يتم تنفيذها بحجة عدم وجود المحكمة الدستورية (وهل المحكمة الدستورية أصلا كانت غير موجودة في السودان؟). وقـد نصت الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية لسنة 2019 على إنشاء المحكمة الدستورية العليا. كان على حمدوك – وبالاستعانة بمستشاره القانوني وبوزير العدل – أن يسعى مع الجهات المعنية في تشكيل هذه المحكمة الدستورية، هذه واحدة من الانجازات المهمة التي كان يجب أن تُحسب لحمدوك كان عليه أن يركز عليها لأهميتها للثورة، لكنه لم يحققها. كان هذه يمكن أن تكون واحدة من الانجازات الداخلية المهمة المفقودة – حتى ينتفي المبرر الخاص بعدم تحكيم حكم الإعدام..
عاشـراً: من أكبر الأخطاء السياسية التي ارتكبها حمدوك هو توقيعه اتفاق سياسي مع البرهان (في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021). هذا يعكس سوء تقديراته السياسية. فكيف لرئيس وزراء يتمتع بكل هذا السند الشعبي والولاء الجماهيري العريض أن يزعن للطرف الآخر بمثل هكذا اتفاق بحجة (حقن الدماء)! وللمفارقة زاد سفك دماء المتظاهرين بعد توقيع الاتفاق!! ما هكذا تتم عملية حقن الدماء مع نظام هو امتداد للنظام السابق (كما اعترف حسن مكي). كان يجب عليه أن يتماهي مع شعارات الثورة ويعمل وفق اتجاهات الرأي العام وتطلعات الجماهير التي وثقت فيك وقدمت لك تفويضا غير مسبوق.
بصورة عامـة: لم يستفـد حمدوك لا من السند الشعبي ولا من الدعم الدولي للثورة إلا من أشياء هي أصلاً (ليست انجازاته) بل انجازات “تلقائية” حققتها الثورة (مثل رفع العقوبات وإزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإعفاء – كلي أو جزئي – للديون).
الانجازات الحقيقية لمثل هذه الثورة كان يجب أن تكون اختراق في الأوضاع الداخلية، فالحلول كلها داخلية لمن له “رؤية سياسية” وقدرات سياسية – في المستوى المطلوب. إن الانجازات الخارجية كانت سوف تتم تلقائيا بمتابعة روتينية فقط من الحكومة الانتقالية. كيف؟ لأن النظام الذي تسبب فيها ( أي العقوبات وقائمة الإرهاب ..) قد ذهب. فليس هنالك أية صعوبة في معالجة تلك الأمور..
في أواخر أغسطس وأوائل سبتمبر 2019 وصلتني دعوة من الجامعة الأمريكية في واشنطن، لتقديم محاضرة عن الثورة السودانية. وكان في تلك الأيام يجري التشاور حول تشكيل الحكومة الانتقالية. فبالإضافة إلى المحاضرة الرئيسية في الجامعة قدمتُ محاضرات وتفاعلت في نقاشات في الشأن السوداني في عدة مراكز بحوث من بينها مركز السلام العالمي والمعهد الأمريكي للسلام (USIP)، كما زرت وزارة الخارجية الأمريكية حيث اجتمعت مع المسؤول عن ملف السودان بالوزارة(Bryan D. Hunt) بحضور مدير الإعلام في الإدارة الأفريقية بالخارجية الأمريكية (Jonathan Koehler) وآخرين، حيث عبروا عن اعجابهم بالثورة السودانية وبالمرأة السودانية (الكنداكة) وأكدوا لي أن الولايات المتحدة الامريكية والغرب وكل العالم يؤيد ويقف مع ويدعم ثورة الشعب السوداني من أجل الديمقراطية والعدالة والحرية. وفي نهاية اللقاء أكدوا لي أن عملية رفع العقوبات وإزالة اسم السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب كلها مسألة وقت لأنهم في انتظار تقارير فقط من عدة منظمات ومؤسسات يتم رفعها للكونجرس ومن ثم للبيت الأبيض لاتخاذ القرارات الخاصة بذلك (أنظر سلسلة مقالاتي الثلاثة بعنوان “عشرة أيام في واشنطون”، صحيفة الانتباهة، الخرطوم 13/9، و 29/9، و 5/10/ 2019). فقد مهدت الثورة لذلك، فهو انجاز خالص للثورة بصورة مباشرة وما كان على الحكومة الانتقالية إلا استكماله (دبلوماسيا وإجرائياً)..
أما الانجازات الحقيقية فكنا نحتاجها في الداخل، لكننا لم نجدها!!
أقول للذين يدافعون عن حمدوك بأنه (لم يفشل) لكن المؤامرات هي السبب …أقول لهم أن قوة الثورة التي أجبرت البشير على التنحي لكانت قادرة على أن تجبر لجنته الأمنية (التي خلفته) على أن “تلزم حدودها”؛ وحدودها معلومة ومعروفة لو وجدت الثورة قائد ثوري يفهم في السياسة. لكن حمدوك وضع لهم الحبل على الغارب فتمددوا في فضاء سلطاته وصلاحياته في السياسة الداخلية والخارجية!
وأقول للذين ينادون بعودة حمدوك أقول لهم إن المؤامرات التي دفعت حمدوك بالاستقالة، أو أفشلته، هي ما زالت موجودة، بل ربما زادت مع تمـكُّـن أعـداء الثورة بإنقلاب البرهان على الحكومة المدنية الانتقالية في 25/10/2021. وعاد حمدوك ووقع اتفاق مع الذي أطاح بحكومته فأدار ظهره للثورة وخسر الثوار وفقد جـزءً كبيراً من شعبيته. فقد كانت تقديراته خطأً كبيراً. لو كانت لحمدوك رؤية سياسية لما كان فعل ذلك فاتهمه البعض – ظلماً – بأنه (باع الثورة).
أقول للذين يبررون بالقول أن حمدوك قد واجه مؤامرات كبيرة:
لقــد كانت في يـد حمدوك قوة أكبر من قوة المؤامرات. حمدوك كانت معه الجماهير في كل السودان. وكان ذلك رصيد ثوري قوي؛ لو كان هنالك قائد سياسي في مستوى قوة هذه الثورة العظيمة لاتخذت الأوضاع مساراً مختلفاً جداً. هذا إضافة إلى أنه كان مع الثورة (ومع حمدوك) كل المجتمع الدولي… لكن “يا حسـرة”!
وهنا أشير لهذه الحقائق:
حديث حمدوك عن “العبور” حديث نظري. فهو يتحدث عنه ولم يعمل لـه. وذلك لأنه لم يمسك بمفاتيح العبور وهي كانت متاحة له لو كانت له القدرات السياسية اللازمة لذلك. ( من مفاتيح النجاح: التفويض الشعبي، السند الجماهيري الكبير، الدعم الدولي القوي، علماء وخبراء وكفاءات مستقلة جاهزة بكل أفكار وآليات العبور). لقد توافر لحمدوك تأييـد جماهيري لم يجده أي زعيم سوداني في التاريخ الحديث.
للذين يتحدثون عن المؤامرة نقول لهم لقد أضاع حمدوك فرصا كبيرة لمقاومة تلك المؤامرات. وهكذا نحن نفتقـر للقائد صاحب الرؤية السياسية والإرادة السياسية ليمسك بالفرص المتاحة ليهزم المؤامرات والتحديات..
لو كان حمدوك “مؤسِّس” لبدأ خطوة أولى في إعادة هيكلة الاقتصاد وإعادة بناء مؤسسات الدولة التي دمرها النظام السابق. وهنالك دراسات كثيرة خاصة بذلك (على قفى من يشيل). لكنه بدلاً عن ذلك ترك الأمر لمجلس السيادة – خاصة المكون العسكري. وتشكلت لجنة اقتصادية برئاسة الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي). فإذا كان حميدتي يملك المال فهل يملك “الفكر الاقتصادي”؟! أنت “اقتصادي” يا دكتور وهذا مجالك وأن قرار تشكيل اللجنة من اختصاصك بصفتك “رئيس وزراء” – حتى لو لم تكن أنت رئيس تلك اللجنة لكن ليس هكذا يكون تشكيلها!!
= لو كان حمدوك “مؤسِّس” لاستعان بالعلماء والخبراء والمختصين. فالتأسيس لا يتم إلا بمثل هذه العقول. لكن حمدوك لم يسأل عنهم ليرى ماذا عندهم للدولة (وهذا واجبهم). ولم يطلب الاجتماع بهم، ولو سأل لوجد خيرا كثيرا وعلما وفيراً يسترشد به في معالجة تعقيدات الانتقالية وفي بناء الدولة المستقرة. فالسودان لا يحتاج لـ “برنامج ثمرات” أو إغاثات وإعانات. السودان غني جدا بموارده وكوادره وعقوله لكنهم لم يجدوا طريقهم للدولة! فالولايات المتحدة الأمريكية – من أكبر الدول تقدما في العالم – تقدمت لأنها أسسها علماء ومفكرون. (كمثال واحد: البروفيسر/ توماس جيفرسون، وهو أكاديمي وفيلسوف ومفكر وعالم سياسي وقانوني). فأمريكا كدولة عظمى قامت على العلم والمؤسسات والقانون. وهذه لبنات يضعها العلماء والمختصون. لقد اكتفى حمدوك بمجموعة من حوله لم نسمع عنها أي شيئ في سياق تأسيس الدولة السودانية التي يطمح لها الشعب ويتطلع لها شباب الثورة الذي قدم روحه فداءً لها.
لو كان حمدوك “مؤسِّس” لاهتم بأهم ركن في تأسيس الدولة وهو تأسيس النظام السياسي نفسه. وأول خطوة في ذلك (بجانب الدستور) هو بناء الأحزاب السياسية على أسس علمية سليمة لكي تعمل كمؤسسات سياسية ببنية حزبية متماسكة والتي بها ينهض أي نظام سياسي. فالأحزاب السياسية هي عصب النظام السياسي. فأحزابنا بشكلها الحالي لا يمكن الاعتماد عليها في تأسيس نظام سياسي مستقر وديمقراطية مستدامة (لي دراسة مفصلة في هذا الموضوع). هنا لو كان حمدوك “مؤسِّس” لاجتمع بالأحزاب وعمل على تشكيل لجنة من العلماء المختصين في مجال النظم السياسية والقانون الدستوري والإدارة العامة لإعانة الأحزاب على إعادة بناء نفسها من خلال ورشة أو مؤتمر علمي خاص بذلك حتى ينطبق عليها المفهوم الصحيح لـ (الحزب السياسي).
لو كان حمدوك “مؤسِّس” لاستعان بلجنة من المختصين (كونسولتو) لوضع تصور لـ “كيف يُحـكَم السـودان؟ وللنظر في إمكانية (وكيفية) تطبيق أنظمة الحكم المناسبة للسودان لا سيما “الديمقراطية التوافقية” (Consensus Democracy)؛ ومع نظام التمثيل النسبي (أو مختلط) في الانتخابات ومع نظام رئاسي.. هذه الخيارات هي الأنسب لحكم السودان بحكم تنوعه الإثني والثقافي. وهو نظام يرفع التظلمات ويزيل الغبن عن الأقليات والقوميات المختلفة من خلال تمثيلها في كل مستويات الحكم. وهي تقوم على معادلة لتقسيم السلطة والثروة في المجتمعات العالية التنوع والحادة الإنقسام ونجحت الديمقراطية التوافقية في تجارب كثيرة فأصبحت أكثر الدول استقرارا (مثل ألمانيا، بلجيكا، سويسرا، الدنمارك، هولندا، السويد..)، إضافة إلى العراق ولبنان – وهذه الأخيرة بها معادلة بين المسيحيين والسُّـنَة والشيعة.. (لي دراسات خاصة بالديمقراطية التوافقية..).
لو كان حمدوك “مؤسِّس” لدعا لمؤتمر قومي علمي جامع تنطلق منه لجان متخصصة في كل المجالات (ويمكن تعمل على تجميع وتلخيص المبادارات لاستخلاص خارطة طريق واحدة شاملة) لمعالجة تعقيدات الفترة الانتقالية. وكذلك يمكن أن يخرج مثل هذا المؤتمر باستراتيجية شاملة لبناء دولة المؤسسات والقانون والحوكمة والحكم الرشيد. فائدة مثل هذا المؤتمر تمتد إلى أنه سوف يكشف لرئيس الوزراء الكفاءات ليستفيد منها في تشكيل الحكومة وفي اختيار المستشارين وفي تشكيل المفوضيات. ومن هذا المؤتمر يمكن أن يتشكل برلمان (مستصحبين مشاركة لجان المقاومة) لأن تشكيل البرلمان لو تركه رئيس الوزراء لهؤلاء الساسة المتشاكسين لن يتشكل ولن تقوم له قائمة قريباً