وجه الحقيقة

فاغنر الروسية والقصة الكاملة لتهريب الذهب من السودان بقلم: محمد إبراهيم


من الواضح أن محاولة تهريب الروس للذهب من ولاية نهر النيل، والتي تم الكشف عنها خلال الأسبوع الماضي ليست هي الأولى، وحسب تقارير صحفية متعددة فقد سبقتها محاولات سابقة، ولكن هذه المرة تفتح الباب أمام الكثير من التساؤلات بإعتبار أن الشخص المقبوض عليه هو من كبار المسؤولين في الشركة الروسية محل الإتهام، فهو مدير الأمن والسلامة بشركة ميروقولد – الصولج التي تعتبر واجهة من واجهات فاغنر الروسية في السودان.
بدأت القصة حينما أوقفت النيابة العامة في منتصف الشهر الماضي ثلاث من حاملي الجنسية الروسية، بعد اشتباه صلتهم بعملية تهريب ذهب من مقر شركة الصولج الروسية بالعبيدية الى الخرطوم، وبعد متابعة دقيقة إستمرت لعدة أشهر، حيث إشتبهت قوة عسكرية مشتركة مع شرطة المعادن بولاية نهر النيل في ثلاث مواطنين روس كان يستقلون سيارة خاصة تتبع لشركة الصولج الروسية، متوجهة من مقر الشركة بالعبيدية الى الخرطوم، وبعد إجراءات التفتيش الإعتيادية تم العثور على سبائك ذهبية تزن أكثر من 7 كيلوجرامات من الذهب الخالص، والذي تمت معالجته في مقر الشركة في ولاية نهر النيل، وتبين لاحقاً أن المتهم بتهريب هذه الكمية من الذهب هو الروسي سيرغي كروبنوف، مدير الأمن والسلامة بشركة الصولج، وبمعيته إثنين من موظفي الشركة الروس، وهي الشركة التي تشرف مجموعة مرتزقة فاغنر الروسية على توفير الحماية لها.
وبعد أن وضعت الشرطة يدها على الذهب المهرب، بدأ سيرغي كروبنوف في إجراء إتصالات هاتفية متعددة، من بينها الإتصال بشخصيات سودانية نافذة للتحدث مع أفراد القوة العسكرية، ومن ثم أجرى إتصالا بمسؤول في الشركة الذي بدوره قام بالإتصال بالسفارة الروسية في الخرطوم، التي وعدته بأنها ستقوم بإجراء إتصالات بالسلطات في ولاية نهر النيل للإفراج عنه، ولكن جميع محاولات سيرغي كروبنوف ومعاونيه باءت بالفشل مع إصرار أفراد الشرطة والقوة المشتركة من الجيش والدعم السريع على تحويل القضية الى قسم شرطة عطبرة، الأمر الذي جعل السفارة الروسية في الخرطوم تقوم بإرسال وفد رفيع يتقدمه القنصل الروسي الى ولاية نهر النيل في محاولة أخرى للتدخل والإفراج عنه، لكن تعامل السلطات الصارم في الولاية حال دون تحقيق مطالب القنصل وتعهداته بحل القضية ودياً وبعيداً عن إثارة قضية تهريب الروس لهذه الكمية من الذهب في وسائل الإعلام، وتم إيداع المهرب الروسي في حراسات السكة حديد في عطبرة، قبل أن يتم تحويله لاحقًا إلى الخرطوم لتُحقق معه نيابة المعادن، ومن ثم تم إيداعه مع إثنين من الروس في سجن سوبا بالخرطوم لحين إنتهاء التحقيق في القضية بعد أن قيّدت النيابة دعوى جنائية ضد كروبنوف، تحت المادة 57/ أ الخاصة بتخريب الاقتصاد الوطني من القانون الجنائي والمادة 32 من قانون تنمية الثروة المعدنية.
في الخرطوم كانت السفارة الروسية قد تلقت إتصالاً في الساعات الأولى من الصباح من مقر خاص يتبع للشركة الروسية في حي الرياض بالخرطوم، يفيد بإحتجاز مدير الأمن والسلامة سيرغي كروبنوف بواسطة شرطة المعادن على مشارف مدينة عطبرة بتهمة تهريب ذهب مع إثنين من معاونيه، وبالفعل حاولت السفارة الروسية في الخرطوم التدخل في الأمر للإفراج عن المهرب كروبنوف، ولكن محاولات مسؤولي السفارة جميعها قوبلت بتوجيهات صارمة من النيابة العامة والسلطات بالولاية والخرطوم بأن ما قام به كروبنوف وزملائه يقع تحت طائلة جريمة “الإضرار بالاقتصاد الوطني” والتي يعاقب القانون عليها بالسجن لمدة لا تتجاوز 10 سنوات او بالغرامة ومصادرة الذهب لصالح حكومة السودان، وكذلك مصادرة السيارة التي كان المهربون الروس يستخدمونها في التهريب.
وحسب المادة 57/أ من القانون الجنائي السوداني فإن “كل من يهرب أو ينقل أي بضائع أو سلع ممنوعة او مقيدة بقانون او يقوم بتصديرها أو يشرع في ذلك بقصد المنع والبيع والتحايل او بتهريبها خارج السودان يعتبر مرتكباً لجريمة الإضرار بالاقتصاد الوطني”.
و سيرغي كروبنوف المتهم الرئيسي في قضية التهريب هذه، كان في طريقه للخرطوم، ومنها الى روسيا لقضاء إجازته السنوية، حيث إعتاد المتهم المذكو القيام برحلات متكررة الى الإمارات العربية المتحدة و تركيا و روسيا ، بعد أن وصل الخرطوم قادماً من موسكو عبر رحلة الخطوط الجوية الإثيوبية في آواخر يونيو من العام 2022، و كان سيرغي بصدد السفر عائدا الى موسكو بعد وصول مناوبه وبديله ألكسندر ستوف الى الخرطوم.
أما شركة الصولج التي يعمل كروبنوف مديراً لأمنها هي في الأصل كانت تسمى “ميروقولد” وجرى تحويلها وتغيير إسمها في مخالفة للقوانين السودانية، وحاولت لجنة التفكيك، المجمدة، توقيف إجراءات تحويل الاسم إلا أن الإنقلاب الذي حدث في 25 اكتوبر 2021 حال دون ذلك.
تأسست الصولج تحت مسمى “ميروقولد” في يونيو 2017 بشراكة روسية سودانية ، ما بين الروسي “ميخائيل بوتبكن” الذي يستحوذ على 99% من أسهمها ، وشريك سوداني آخر بنسبة 1% فقط، حيث أبرمت حكومة المخلوع البشير صفقة “مشبوهة” مع ميروقولد ، منحت بموجبها الشركة حق التنقيب في ولاية نهر النيل ، لكن ميروقولد خالفت التصديق الممنوح لها بالتنقيب عن الذهب، وعملت في مجال مخلفات الذهب “الكرته” بدلا التنقيب، حيث أنشأت مصنعا للذهب بمنطقة العبيدية وهو المصنع الذي تم تهريب الذهب منه، وبعد أن فرضت الولايات المتحدة و دولاً غربية اخرى عقوبات على ميخائيل بوتبكن ، وبعد أصبح الرجل من أخطر المطلوبين لديها، ووضع أسمه على قائمة الممنوعين من السفر، وبعد أن تم فرض عقوبات دولية على مرتزقة فاغنر، قامت “ميروقولد” بتغيير أسمها الى “الصولج”، وواصلت العمل في استخلاص الذهب من مخلفات التعدين الأهلي في مقرها المذكور.
ومنذ دخول روسيا في مجال التعدين عن الذهب في السودان، لم تتوقف محاولات تهريب ذلك المعدن النفيس والذي وجدت فيه موسكو وسيلة إقتصادية لرفع إحتياطيها منه لمجابه سلاح العقوبات الذي تفرضه الدول الغربية بسبب تدخل الكرملين في الحرب على أوكرانيا، وبسبب أنشطة مرتزقة فاغنر الروس التي يتزعمها المطلوب دولياً يغفيني بريغوجين ، والذي يمتلك شركة “إم-إنفست” للتعدين والتي بدروها تدير شركة “ميروقولد”.
و تنشط فاغنر والشركات التابعة لها، كشركة “إم-إنفست” ، كذلك في إفريقيا الوسطى وليبيا ومالي، وتساعد قواتها في كل دولة القادة العسكريين على البقاء في السلطة وتوفير الحماية لها وقمع مواطنيها وثوراتهم، مقابل حقوق استخراج خيراتها من الذهب و الثروات المعدنية، دون الإلتفات لمصالح الشعوب الأفريقية وتطلعاتها نحو الحرية والحكم الديمقراطي الرشيد، والإهتمام فقط بالمصالح الروسية في المنطقة.
من الواضح أن محاولة التهريب هذه ليست هي الأولى على الإطلاق، وحسب تقارير صحفية فقد سبقتها محاولات سابقة، ولكن هذه المحاولة تفتح باب التساؤلات على مصراعيه، حول من يوفر الحماية للمهربين الروس في عمليات التهريب هذه، هل هم أشخاص عاديين، أم شخصيات ذات سلطة ونفوذ. كما تقود هذه المحاولة الفاشلة التساؤلات عن كيف ستتعامل السلطات المختصة مع محاولات التهريب، وكيف ستعالج الجهات المختصة هذه القضية في ظل النفوذ الروسي في السودان؟.
وقامت الشركات الروسية خلال النظام البائد بتهريب مئات الأطنان من ذهب السودان وثرواته القومية، وكانت مثل هذه الجرائم بحق الدولة وإقتصادها الوطني تحدث ليلاً ونهارا بعد أن كانت فلول نظام المخلوع البشير توفر الأمن والحماية للشركات الروسية في الحصول على الذهب بعيدأ عن القنوات الرسمية للتصدير والمعالجة، وعن طريق مرتزقة فاغنر التي كانت في المقابل توفر التدريب والحماية بل وقمع التظاهرات والإحتجاجات السلمية التي إنطلقت قبل سقوط النظام البائد.
وكانت السلطات في ولاية نهر النيل قد أحبطت في منتصف العام 2019 محاولة تهريب 241 كيلو من الولاية عبر طائرة خاصة مستأجرة، وأعتبرت هذه الكمية الأكبر في تاريخ السودان.
وأجرت قناة سي ان ان التلفزيونية في يوليو 2021 تحقيقاً حول إنتاج الشركة الروسية في العبيدية ، وأشار التقرير الى أنه يتم تهريب أكثر من 32 طن سنوياً من الذهب دون الكشف عنها لدى بنك السودان المركز، وإتهمت سي ان ان الشركات الروسية بتنظيم عمليات لنهب ثروات السودان في محاولة لحماية روسيا من العقوبات الغربية المتزايدة على موسكو ، وبالرغم من نفي وزارة المعادن والجهات المسؤولة عن التعدين في السودان للأرقام الواردة في التقرير، إلا أن ذلك فتح الباب أمام المزيد من التساؤلات حول حجم الإنتاج الحقيقي للشركات الروسية في السودان من الذهب.
واتهم تقرير آخر نشرته صحيفة “ديلي تلغراف” البريطانية في مارس 2022 روسيا بتهريب مئات الأطنان من الذهب بشكل غير قانوني من السودان على مدى السنوات الماضية كجزء من جهود أوسع لبناء “حصن لروسيا” ولدرء إمكانية زيادة العقوبات المتعلقة بأوكرانيا، هذا بالإضافة الى الكثير من التقارير الدورية التي تتحدث عن تهريب الذهب السوداني الى الخارج.
وكان وزير المالية الحالي جبريل ابراهيم قد ذكر في تصريحات له في فبراير 2022 ان السودان ينتج كميات كبيرة من الذهب لكن جزء كبير من هذه الكميات يخرج من البلاد بقنوات غير رسمية عبر التهريب.
وبحسب بعض التقارير فإن الإنتاج الفعلي من الذهب في السودان يقدر بأكثر من 100 طن سنويا، إلا أن أكثر من 60 بالمئة منه يتم تداوله خارج القنوات التسويقية والمصرفية الرسمية، مما يفقد الاقتصاد مليارات الدولارات سنويا.
ولا ننسى حديث وزير المالية الأسبق إبراهيم البدوي، حينما كان على رأس الوزارة ، وتقديره لحجم الذهب الذي يتم تهريب يوميا الى 450 كيلو جرام بما يعادل 25 مليون دولار في وقتها.
تكشف المحاولة الروسية الحالية لتهريب ذهب السودان، حجم التأثير الروسي والتغول في قطاع التنقيب عن الذهب والامتيازات التي تتحصل عليها تلك الشركات فى السودان إذ إن وجود الروس دوما مرتبط بمناطق تعدين الذهب والمعادن النفيسة الأخرى مما يتطلب إجراء مراجعة شاملة لعقود هؤلاء الروس وشركاتهم والمربعات التي تعمل فيها وعلاقاتهم مع أي متنفذين في الدولة وفي حال ثبت وجود أي نوع من العلائق فإنه يستبعد أن تجري أي محاكمة له خاصة وأن روسيا تتمتع بعلاقات قوية مع قادة الدولة.