وجه الحقيقة

الأغنية الشايقية عند شعراء منحنى النيل “3”/ كتب : معتصم طه

تبقى أشعار الشايقية في منحنى النيل مثل فاكهة المانجو تضج رواء ونضارة ورغم سقياها من ماء واحد إلا أن طعمها مختلف، وكنا في الحلقة السابقة قد تحدثنا عن تجربة الشاعر السر عثمان الطيب ورفيقي دربه محمد كرم الله ومحمد جبارة اللذين صاغا له ألحان الخلود وجعلا أشعاره على لسان كل مدر وحجر والآن نقترب من الدخول لديار الشاعر محمد سعيد دفع الله، وهو خال للشاعر السر عثمان الطيب، ولكن هل جينات الشعر أتت للشاعرين من جدتيهما؟ أم أن طبيعة المنطقة الساحرة القرير التي تربيا فيها أورثتهما تلك العبقرية؟!
وفي داخل غابات النخيل في قرية القرير التي تقع في منحنى النيل حيث بواسق النخيل ولد شاعرنا محمد سعيد دفع الله وتلقى تعليمه بها ثم درس آداب جامعة الخرطوم، وهو لا يحتاج لهذه الدراسة لأنه تخرج أديباً لارتباطه بمنطقة تقتات الشعر وتصحو وتنام على مولد قصيدة.
وصاحبته ربة الشعر منذ سني صغره وعندما اغترب غربته الصغرى داخل الخرطوم، وفارق القرير كتب لصديقه يحيى فضل المولى الطالب بمدرسة القرير قديماً والمدير المالي لمشروع القرير حالياً ويقول في خطابه:
أخي العزيز يا يحيى يا أب قلباً عطوف
أهديك أشواق بالألوف
عن صورتن تعجز حروف
ويمضي يسأل يحيى عن كل صغيرة وكبيرة داخل قريته التي تركها من أجل إكمال دراسته الجامعية، ويسأله عن حياة الداخلية بالمدرسة الوسطى، ويطلب منه بعد نهاية الامتحانات أن يبث أشواقه لكل أهله:
يا يحيي أرجوك ياخي فوت بعد انتهاء الامتحان
بالله طوف كل البيوت اقري السلام أهلي الحنان
قول ليها زولك داير يموت بالشوق تلف منو الحنان

وعندما يغادر الخرطوم إلى رياض السعودية وتبقى بينهم آلاف الأميال يبكي ويستبكي، وتسيطر على خيالاته أحلام مزعجة ويخاف أن تكون نهايته في تلك الغربة.
بكيت خلايا كان ينفعني وارتاح لو قليل
وأقول جابتني يبقى التربة أموت عابر سبيل
مانا شبه بعاد أو غربة مالنا على الرحيل
مالو إن كان لزمنا بلدنا والخالق كفيل
وفي جامع التويماب بحي القلعة وهو أحد أحياء القرير السبعة نهل شاعرنا محمد سعيد دفع الله علوم القرآن، ولذا بان أثرها واضحا في بعض أشعاره فلا غرو أن تأتي الكلمات طائعة منسابة تجرجر أذيالها وعندما مرضت والدته لجأ لخالق الكون مخاطباً إياه في قصيدته: اشفها بحق قدرتك
طلبتك ربي يا الأكرم
تطيب أمي لي تسلم
عليها العلة لا تدبي
بشوفه الليلة راقدة سرير
ويا مولايا انت قدير
تقول لها قومي كب هبي
ورغم إيمانه بالقضاء والقدر ويستسلم له تماماً باعتبار أنه لا فكاك منه، فلذا نستدعي فضيلة الصبر في قصيدة قيام قعاد وبعد ذلك يرثي لحال،  ويتمنى أن ينعدل الحال ويطل الهناء والنعيم بديلاً للشقاء والبكاء
دا القدر يا خله يحكم وحكموا تب ما ليهو راد
ونحن شن نعمل ترانا الصبر يوت ساونو زاد
إلى أن يصل بقوله:
ربي ليه .. لسه برانا ونحن من دون العباد
نبقى عايشين لي شقانا وبس متين ينتم مراد
ليل نهار نبكي وننوح والجسم خلي الرقاد
وإن رقد عاد شن رقاده الدمو جاري على الوساد
يا كريم يا الانت داري وعالم الما في الفؤاد
عاد يروح وحالنا يصلح وتاني حبي يجيني صاد
وتظل مفردة القدر في ثنايا شعره لتطل مرة أخرى في قصيدته وداع قارناً اياها بالصبر مثلما
قتلوا عاد يا هو القدر وعارفو ما كان بي ارادتو
وماب نعلق المضاجع
يبقي صابر بالعلي وارضي للحرمان اكابد
وكل منايا يجيني راجع
عندما مرضت والدته دعا لها المولى الكريم أن يكلوها برحمته وكتب يا رحمن وهو يستعد للذهاب للعيد بالبلد ليقضي معها أجمل أيامه
أمي مصيرا في إيدك
كريم يا ربي يا رحمان
وأنا النازل على عيدك
عشان أفرح مع الحبان
سالتك ربي بي لطفك
تجبر كسري فيك عشمك
تراعي لأمي بي عطفك
قلبي عليها اه شفقان
في رأس السنة التي كتبها ناقلاً مشاعر الناس تلك الليلة وهم يودعون عاما ويستقبلون آخر
الناس تعيش رأس السنة
وبايت وحيد يا اخوان انا
جل العزيز سطر حياتي ودونا
يوما يجي والغير يكون بهجه وهنا
والطيف منذ عهد البارودي مروراً بالشاعرين السر عثمان الطيب ومحمد سعيد دفع الله يظل حاضراً في مخيلة الشعراء وما بين طيف سميرة يظل طيف محمد سعيد حاضرا في كل الأوقات في الهمس والشهق ومع شرايينه.
حتي الطيف رحل خلاني
ما طيب لي خاطر
لا تقول هي كدي استاني
بمشي واجيك باكر
يبقي انا مالم فيك تاني
ومحمد سعيد ألقى عصا التسيار أيضا بعد غربة امتدت لخمسة وعشرين عاما برياض السعودية وهو الآن بمدينة الثورة وسط أبنائه عدي وعلي وأم أولاده بنت العم فوزية فتح الرحمن عبيد التي كتب فيها أعظم أشعاره.